فصل: سورة آل عمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وَقال الشيخ ـ رَحمه اللَّه تعالى‏:‏

اعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وبارك، خواتيم ‏(‏سورة البقرة‏)‏ من كنز تحت العرش لم يؤت منه نبى قبله‏.‏ ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين، وقواعد الإيمان الخمس، والرد على كل مبطل، وما تضمنته من كمال نعم اللّه ـ تعالى ـ على هذا النبى صلى الله عليه وسلم وأمته، ومحبة الله ـ سبحانه ـ لهم، وتفضيله إياهم على من سواهم، فَلْيَهْنَهُ ‏[‏فى المطبوعة‏:‏ فاليهنه ـ والصواب ما أثبتناه‏]‏ العلم، ولو ذهبنا نستوعب الكلام فيها لخرجنا عن مقصود الكتاب، ولكن لابد من كليمات يسيرة تشير إلى بعض ذلك فنقول‏:‏

لما كانت ‏(‏سورة البقرة‏)‏ سِنام القرآن، وأكثر سوره أحكاما، وأجمعها لقواعد الدين؛ أصوله وفروعه، وهى مشتملة على ذكر أقسام الخلق؛ المؤمنين، والكفار، والمنافقين، وذكر أوصافهم و أعمالهم‏.‏

وذكر الأدلة الدالة على إثبات الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وعلى وحدانيته، وذكر نعمه، وإثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرير المعاد، وذكر الجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب‏.‏

ثم ذكر تخليق العالم العلوى والسفلى‏.‏

ثم ذكر خلق آدم ـ عليه السلام ـ وإنعامه عليه بالتعليم وإسجاد ملائكته له، وإدخاله الجنة، ثم ذكر محنته مع إبليس، وذكر حسن عاقبة آدم ـ عليه السلام‏.‏

ثم ذكر المناظرة مع أهل الكتاب من اليهود، وتوبيخهم على كفرهم وعنادهم، ثم ذكر النصارى والرد عليهم، وتقرير عبودية المسيح، ثم تقرير النسخ، والحكمة فى وقوعه‏.‏

ثم بناء البيت الحرام وتقرير تعظيمه، وذكر بانيه والثناء عليه، ثم تقرير الحنيفية ملة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتسفيه من رغب عنها، ووصية بنيه بها وهكذا شيئاً فشيئاً إلى آخر السورة، فختمها اللّه تعالى بآيات جوامع مقررة لجميع مضمون السورة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏‏.‏

فأخبر ـ تعالى ـ أن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه وحده لا يشاركه فيه مشارك، وهذا يتضمن انفراده بالملك الحق،والملك العام لكل موجود، وذلك يتضمن توحيد ربوبيته وتوحيد إلهيته، فتضمن نفى الولد والصاحبة والشريك؛ لأن ما فى السموات وما فى الأرض إذا كان ملكه وخلقه لم يكن له فيهم ولد ولا صاحبة ولا شريك‏.‏

وقد استدل ـ سبحانه ـ بعين هذا الدليل فى سورة الأنعام، وسورة مريم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏، وقال تعالى ـ فى سورة مريم‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏92، 93‏]‏، ويتضمن ذلك أن الرغبة والسؤال والطلب والافتقار لا يكون إلا إليه وحده؛ إذ هو المالك لما فى السموات والأرض‏.‏

ولما كان تصرفه ـ سبحانه ـ فى خلقه لا يخرج عن العدل والإحسان وهو تصرف بخلقه وأمره، وأخبر أن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه، فما تصرف خلقاً وأمراً إلا فى ملكه الحقيقى، وكانت سورة البقرة مشتملة من الأمر والخلق على ما لم يشتمل عليه سورة غيرها أخبر ـ تعالى ـ أن ذلك صدر منه فى ملكه، قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏284‏]‏، فهذا متضمن لكمال علمه ـ سبحانه وتعالى ـ بسرائر عباده وظواهرهم، وأنه لا يخرج شىء من ذلك عن علمه، كما لم يخرج شىء ممن فى السموات والأرض عن ملكه، فعلمه عام وملكه عام‏.‏

ثم أخبر ـ تعالى ـ عن محاسبته لهم بذلك، وهى تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه، فتضمن ذلك علمه بهم وتعريفهم إياه، ثم قال‏:‏‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ فتضمن ذلك قيامه عليهم بالعدل والفضل، فيغفر لمن يشاء فضلا، ويعذب من يشاء عدلا، وذلك يتضمن الثواب والعقاب المستلزم للأمر والنهى، المستلزم للرسالة والنبوة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، فتضمن ذلك أنه لا يخرج شىء عن قدرته الْبَتّةَ، وأن كل مقدور واقع بقدره، ففى ذلك رد على المجوس الثنوية، والفلاسفة، والقدرية المجوسية، وعلى كل من أخرج شيئا من المقدورات عن خلقه وقدرته ـ وهم طوائف كثيرون‏.‏

فتضمنت الآية إثبات التوحيد، وإثبات العلم بالجزئيات والكليات، وإثبات الشرائع والنبوات، وإثبات المعاد والثواب والعقاب، وقيام الرب على خلقه بالعدل والفضل، وإثبات كمال القدرة وعمومها، وذلك يتضمن حدوث العالم بأسره؛ لأن القديم لا يكون مقدوراً ولا مفعولا‏.‏

ثم إن إثبات كمال علمه وقدرته يستلزم إثبات سائر صفاته العلى، وله من كل صفة اسم حسن، فيتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكمال القدرة يستلزم أن يكون فعالا لما يريد، وذلك يتضمن تنزيهه عن كل ما يضاد كماله، فيتضمن تنزيهه عن الظلم المنافى لكمال غناه وكمال علمه؛ إذ الظلم إنما يصدر عن محتاج أو جاهل، وأما الغنى عن كل شىء العالم بكل شىء ـ سبحانه ـ فإنه يستحيل منه الظلم، كما يستحيل عليه العجز المنافى لكمال قدرته، والجهل المنافى لكمال علمه‏.‏

فتضمنت الآية هذه المعارف كلها بأوجز عبارة، وأفصح لفظ، وأوضح معنى‏.‏

وقد عَرفتَ بهذا أن الآية لا تقتضى العقاب على خواطر النفوس المجردة، بل إنما تقتضى محاسبة الرب عبده بها، وهى أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص، وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وعلى هذا فالآية محكمة لا نسخ فيها، ومن قال من السلف‏:‏ نسخها ما بعدها فمراده بيان معناها والمراد منها، وذلك يسمى نسخاً فى لسان السلف، كما يسمون الاستثناء نسخاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فهذه شهادة الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإيمانه بما أنزل إليه من ربه، وذلك يتضمن إعطاءه ثواب أكمل أهل الإيمان ـ زيادة على ثواب الرسالة والنبوة ـ لأنه شارك المؤمنين فى الإيمان، ونال منه أعلى مراتبه، وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة، وقوله‏:‏‏{‏أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ‏}‏ يتضمن أنه كلامه الذى تكلم به، ومنه نزل لا من غيره، كما قال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏80، والحاقة‏:‏43‏]‏‏.‏

وهذا أحد ما احتج به أهل السنة على المعتزلة القائلين بأن الله لم يتكلم بالقرآن، قالوا‏:‏ فلو كان كلاما لغير الله لكان منزلا من ذلك المحل لا من الله؛ فإن القرآن صفة لا تقوم بنفسها، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏31‏]‏، فإن تلك أعيان قائمة بنفسها، فهى منه خلقا، وأما ‏(‏الكلام‏)‏ فوصف قائم بالمتكلم، فلما كان منه فهو كلامه؛ إذ يستحيل أن يكون منه ولم يتكلم به‏.‏

ثم شهد ـ تعالى ـ للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم، ثم شهد لهم جميعا بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فتضمنت هذه الشهادة إيمانهم بقواعد الإيمان الخمسة التى لا يكون أحد مؤمناً إلا بها، وهى‏:‏ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر‏.‏

وقد ذكر ـ تعالى ـ هذه الأصول الخمسة فى أول السورة ووسطها وآخرها، فقال فى أولها‏:‏‏{‏والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏، فالإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله يتضمن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏، والإيمان بالله يدخل فى الإيمان بالغيب وفى الإيمان بالكتب والرسل، فتضمنت الإيمان بالقواعد الخمس‏.‏

وقال فى وسطها‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا‏:‏‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، فلا ينفعنا إيماننا بمن آمنا به منهم كما لم ينفع أهل الكتاب ذلك، بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم ولا نفرق بينهم، وقد جمعتهم رسالة ربهم فنفرق بين من جمع الله بينهم،ونعادى رسله، ونكون معادين له، فباينوا بهذا الإيمان جميع طوائف الكفار المكذبين لجنس الرسل،والمصدقين لبعضهم المكذبين لبعضهم‏.‏

وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وعموم قدرته ومشيئته، وكمال علمه وحكمته، فباينوا بذلك جميع طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشىء منه؛ فإن كمال الإيمان بالله يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه، فباينوا بهذين الأمرين جميع طوائف الكفر، وفِرَق أهل الضلال الملحدين فى أسماء الله وصفاته‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏، فهذا إقرار منهم بركنى الإيمان الذى لا يقوم إلا بهما، وهما السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار، بل سمع الفهم والقبول، والثانى‏:‏ الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر، وهذا عكس قول الأمة الغضبية‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏93‏]‏‏.‏

فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم، وكمال قبولهم، وكمال انقيادهم، ثـم قالـوا ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏ لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعـة والانقيـاد الذى يقتضيه منهـم، وأنهم لابد أن تميل بهم غلبات الطبـاع ودواعـى البشرية إلى بعض التقصير فى واجبات الإيمان، وأنه لا يلم شَعْْثَ ذلك إلا مغفرة اللّه ـ تعالى ـ لهم، سألوه غفرانه الذى هو غاية سعادتهم، ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من اللّه ـ تعالى ـ فقالوا‏:‏ ‏{‏غُفْرَانَكَ رَبَّنَا‏}‏ ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لابد لهم من الرجوع إليه فقالوا‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به، ودخولهم تحت طاعته وعبوديته، واعترافهم بربوبيته، واضطرارهم إلى مغفرته، واعترافهم بالتقصير فى حقه، وإقرارهم برجوعهم إليه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التى لا يملكون دفعها، وأنها داخلة تحت تكليفه، فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم، فهذا هو البيان الذى قال فيه ابن عباس وغيره‏:‏ فنسخها اللّه عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمراً ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وفى ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك‏.‏

والله ـ تعالى ـ أمرهم بعبادته، وضمن أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يسعونه، وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فتكليفهم يسعونه، وأرزاقهم تسعهم، فهم في الوُسْع فى رزقه وأمره؛ وسعوا أمره ووسعهم رزقه، ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول‏:‏ إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يطيقونه، ثم يعذبهم على ما لا يعملونه‏.‏

وتأمل قوله ـ عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ كيف تجد تحته أنهم فى سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضى ذلك، فاقتضت الآية أنّ ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدوراً له ولكن فيه ضيق وحرج عليه، وأما وسعه الذى هو منه فى سعة فهو دون مدى للطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع، وذلك منافٍ للضيق والحرج ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏78‏]‏، بل يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏.‏ قال سفيان بن ـ عيينة ـ في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏:‏ إلا يسرها لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود‏.‏

فهذا فَهْم أئمة الإسلام، وأين هذا من قول من قال‏:‏ إنه كلفهم ما لا يطيقونه البتة، ولا قدرة لهم عليه‏؟‏ ثم أخبر ـ تعالى ـ أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم، وأنه ـ تعالى ـ يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم، بل لهم كسبهم ونفعه، وعليهم اكتسابهم وضرره، فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، بل رحمة وإحساناً وتكرماً، ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم، بل حمية وحفظاً وصيانة وعافية‏.‏

وفيه ـ أيضاً ـ أن نفساً لا تعذب باكتساب غيرها، ولا تثاب بكسبه، ففيه معنى قـولـه‏:‏‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏ النـجـم‏:‏ 39‏]‏،‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164، الإسراء‏:‏15، فاطر‏:‏18‏]‏ ‏.‏

وفيه ـ أيضاً ـ إثبات كسب النفس المنافى للجبر‏.‏

وفيه ـ أيضاً اجتماع الحكمة فيه، فإما كسب خيراً أو اكتسب شراً، لم يبطل اكتسابه كسبه، كما يقوله أهل الإحباط والتخليد، فإنهم يقولون‏:‏ إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب، فالآية رد على جميع هذه الطوائف، فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة، وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن ‏(‏اكتسب‏)‏ أبلغ من ‏(‏كسب‏)‏، ففى ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل، والرحمة للغضب‏.‏

ثم لما كان ما كلفهم به عهوداً منه ووصايا، وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها، وألا يخل بشىء منها؛ ولكن غلبات الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله ـ تعالى ـ إلى أن يسألوه مسامحته إياهم فى ذلك كله، ورفع موجبه عنهم بقولهم‏:‏‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، أى‏:‏ لا تكلفنا من الآصار التى يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجساداً وأقل احتمالا‏.‏

ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه، سألوه التخفيف فى قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف فى أمره ونهيه، فقالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ فهذا فى القضاء والقدر والمصائب، وقولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ في الأمر والنهى والتكليف، فسألوه التخفيف فى النوعين‏.‏

ثم سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش فى الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح، فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم ومسامحتهم به، والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم، بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافى قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض، والمغفرة إحسان وفضل وجود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر، فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير،والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه، وإعلاء كلمته، وقهر أعدائه، وشفاء صدورهم منهم،وإذهاب غيظ قلوبهم،وحزازات نفوسهم، وتوسلوا فى خلال هذا الدعاء إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذى لا مولى لهم سواه، فهو ناصرهم، وهاديهم، وكافيهم، ومعينهم، ومجيب دعواتهم، ومعبودهم‏.‏

فلما تحققت قلوبهم بهذه المعارف وانقادت وذَلَّتْ لعزة ربها ومولاها وأجابتها جوارحهم، أعطوا كل ما سألوه من ذلك، فلم يسألوا شيئاً منه إلا قال اللّه ـ تعالى‏:‏ ‏(‏قد فعلتُ‏)‏، كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏

فهذه كلمات قصيرة مختصرة فى معرفة مقدار هذه الآيات العظيمة الشأن،الجليلة المقدار، التى خص الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من كنز تحت العرش‏.‏

وبعد، ففيها من المعارف وحقائق العلوم ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به، واللّه المرغوب إليه ألاّ يحرمنا الفهم فى كتابه، إنه رحيم ودود‏.‏

والحمد للّه وحده، وصلى اللّه وسلم على من لا نبى بعده وآله وصحبه أجمعين‏.‏

وَقالَ ـ رحمه اللَّه‏:‏

 فصــل

فى الدعاء المذكور في آخر ‏(‏سورة البقرة‏)‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ إلى آخرها ‏[‏البقرة‏:‏ 682‏]‏‏.‏

وقد ثبت فى صحيح مسلم‏:‏ أنه قال ‏(‏قَدْ فَعَلْتُ‏)‏ ، وكذلك فى صحيحه من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أعطيتُ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من كَنْزٍ تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته‏)‏ وفى صحيحه أيضاً عن ابن مسعود قال‏:‏ لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سِدْرة ينتهى، وهى فى السماء السابعة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها يتنهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها، قال‏:‏‏{‏إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى‏}‏ ‏[‏ النجم‏:‏16‏]‏، قال‏:‏ فراش من ذهب، قال‏:‏فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً‏:‏ أعطى الصلوات الخمس،وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً المقْحِمَات‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ إذا كان هذا الدعاء قد أجيب، فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل، وهذا لا فائدة فيه، فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال، وهذا القول قد قاله طائفة فى جميع الدعاء أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه، وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء ـ دعوت أو لم تدع ـ فجعلوا الدعاء تعبداً محضاً، كما قال ذلك طائفة أخرى فى التوكل‏.‏

وقد بسطنا الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع، وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة بناء على أنه ليس فى الوجود سبب يفعل به؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر، قاله طائفة من القدرية النظار، وأول من عرف عنه ذلك الجَهْم بن صَفْوان ومن وافقه، وذكرنا أن ‏(‏القول الثالث‏)‏ هو الصواب، وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب‏.‏

والمقصود هنا الكلام في الدعاء الذى قد علم أنه أجيب، فقال بعض الناس‏:‏ هذا تعبد محض لحصول المطلوب بدون دعائنا، فلا يبقى سببا ولا علامة، وهذا ضعيف‏.‏

أما أولاً‏:‏ فإن العمل الذى لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به، وهذا بناء على قول السلف‏:‏ إن اللّه لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة، كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب‏.‏ والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون‏:‏ بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد البتة، وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به، كما بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود أن كل ما أمر الله به، أمر به لحكمة، وما نهى عنه نهى لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها، فالتعبد المحض ـ بحيث لا يكون فيه حكمة ـ لم يقع‏.‏ نعم، قد تكون الحكمة فى المأمور به وقد تكون في الأمر، وقد تكون في كليهما، فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة؛ كالعدل، والإحسان إلى الخلق،وصلة الرحم، وغير ذلك‏.‏ فهذا إذ أمر به صار فيه حكمتان حكمة فى نفسه، وحكمة في الأمر، فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع، وهذا هو الغالب على الشريعة، وما أمر الشرع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به‏.‏

وكذلك ما نسخ زالت حكمته وصارت فى بدله كالِقبلة‏.‏

وإذا قدر أن الفعل ليست فيه حكمة أصلاً فهل يصير بنفس الأمر فيه حكمة الطاعة‏؟‏ وهذا جائز عند من يقول بالتعبد المحض وإن لم يقل بجواز الأمر لكل شىء، لكن يجعل من باب الابتلاء والامتحان، فإذا فعل صار العبد به مطيعا، كنهيهم عن الشرب إلا من اغترف غرفة بيده‏.‏

والتحقيق أن الأمر الذى هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة فى الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود، وإن لم يفعله، كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه، وكحديث أقرع وأبرص وأعمى لما طلب منهم إعطاء ابن السبيل، فامتنع الأبرص والأقرع فسُلِبَا النعمة‏.‏ وأما الأعمى فبذل المطلوب، فقيل له‏:‏ أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضى عنك وسخط على صاحبيك‏.‏ وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهى لا من نفس الفعل، فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب، كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه، حتى تتم خُلَّته به قبل ذبح هذا المحبوب للّه، فلما أقدم عليه وقوى عزمه بإرادته لذلك، تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره، ولم يبق فى قلبه محبوب يزاحم محبة اللّه‏.‏

وكذلك أصحاب طالوت، ابْتُلُوا بالامتناع من الشرب ليحصل من إيمانهم وطاعتهم ما تحصل به الموافقة، والابتلاء هاهنا كان بنهى لا بأمر، وأما رمى الجمار والسعى بين الصفا والمروة، فالفعل فى نفسه مقصود لما تضمنه من ذكر الله‏.‏

وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم هذا بقوله فى الحديث الذى فى السنن‏:‏ ‏(‏إنما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله‏)‏ رواه أبو داود والترمذى وغيرهما‏.‏ فبين النبى صلى الله عليه وسلم أن هذا له حكمة، فكيف يقال‏:‏ لا حكمة، بل هو تعبد وابتلاء محض‏.‏

وأما فعل مأمور فى الشرع ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة، والمؤمنون يفعلونه، فهذا لا أعرفه، بل ما كان من هذا القبيل نسخ بعد العزم، كما نسخ إيجاب الخمسين صلاة إلى خمس‏.‏

والمعتزلة تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبى الحسن التميمى ‏[‏هو أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن آسد بن الليث التميمى، فقيه حنبلى، له إطلاع على مسائل الخلاف ‏.‏ صنف كتبا فى الآصول والفرائع، ولد سنة 317هـ، وتوفى سنة 371هـ‏]‏، وبنوه على أصلهم، وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت فى نفسه لا مثبت لحسن الفعل، وأن الأمر لا يكون إلا بحسن، وغلطوا فى المقدمتين، فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول، وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن فى نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده، وهذا موجود فى أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا‏.‏

والجهمية تنكر أن يكون فى الفعل حكمة أصلا فى نفسه ولا فى نفس الأمر بناء على أصلهم‏:‏ أنه لا يأمر لحكمة، وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء، ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا، وكـلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء، كأصحاب الشافعى ومالك وأحمد وغيرهم، وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة، ومذهب السلف والأئمة أن اللّه يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان قد شاء وجود ذلك، وقد بسط هذا فى موضع آخر‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏58‏]‏، فإن نفس السجود خضوع للّه،ولو فعله الإنسان للّّه مع عدم علمه أنه أمر به انتفع، كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود‏.‏

وكذلك قول العبد‏:‏ حُطَّ عنا خطايانا، دعاء للّه وخضوع، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏، وهذه الأفعال المدعو بها فى آخر البقرة أمور مطلوبة للعباد‏.‏

وقد أجيب بجواب آخر وهو‏:‏ أن اللّه تعالى إذا قدر أمراً فإنه يقدر أسبابه، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنه لما قدر النصر يوم بَدْر، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم، كان من أسباب ذلك استغاثة النبى صلى الله عليه وسلم ودعاؤه، وكذلك ما وعده به ربه من الوسيلة، وقد قضى بها له، وقد أمر أمته بطلبها له، وهو ـ سبحانه ـ قدرها بأسباب، منها ما سيكون من الدعاء‏.‏

وعلى هذا، فالداخل فى السبب هو ما وقع من الدعاء المأمور به واللّه أعلم بذلك، فيثيب هذا الداعى على ما فعله من الدعاء بجعله تمام السبب، ولا يكون على هذا الدعاء سبباً فى اختصاصه بشىء من ذلك، بل فى حصوله لمجموع الأمة، لكن هو يثاب على الدعاء لكونه من جملة الأسباب؛ وهذا لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من عبد يدعو اللّه بدعوة ليس فيها إثم ولا قَطِعيةُ رَحِمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى خِصال ثلاث‏:‏ إما أن يُعجِّل له دعوته، وإما أن يَدَّخِر له من الخير مثلها، وإمـا أن يدفـع عنه مـن البلاء مثلها‏)‏‏.‏ قـالوا‏:‏ يا رسول اللّه، إذا نُكْثِر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الله أكثر‏)‏‏.‏ فالداعى بهذا كالداعى بالوسيلة يحصل له من الأجر ما يخصه كالداعي للأمة ولأخيه الغائب، ودعاؤه من أسباب الخير التى بها رحمة الأمة، كما يثاب على سؤاله الوسيلة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن تحل عليه الشفاعة يوم القيامة‏.‏

وهنا جواب ثالث وهو‏:‏ أن كل من دعا بهذا الدعاء حصل له من المدعو المطلوب ما لا يحصل بدون المطلوب من الدعاء، فيكون الدعاء به كدعائه بسائر مطالبه من المغفرة والرحمة، وليس هو كدعاء الغائب للغائب، فإن الملك يقول هناك‏:‏‏(‏ولك بمثله‏)‏، فيدعو له الملك بمثل ما دعا به للغائب، وهنا هو داع لنفسه وللمؤمنين‏.‏

وبيان هذا أن الشرع، وإن كان قد استقر بموت النبى صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أن اللّه تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان، وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم،وسأل ربه لأمته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم فأعطاه ذلك، لكن ثبوت هذا الحكم فى حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة اللّه ورسوله، فإذا عصى اللّه ذلك الشخص العاصى عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة، وإن كانت الشريعة لم تنسخ‏.‏

يبين هذا أن فى هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار، ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة، بل منهم من يدخل النار، ومنهم من ينصر عليه الكفار، ومنهم من يسلب الرزق، لكونهم فرطوا فى طاعة الله ورسوله، فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا‏.‏

وقول الله‏:‏ ‏(‏قَدْ فَعَلْتُ‏)‏ يقال فيه شيئان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين فى الآية، والإيمان المطلق يتضمن طاعة اللّه ورسوله‏.‏ فمن لم يكن كذلك نقص إيمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص، ويعوق اللّه عليه ملاذ ذلك، ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب‏.‏

الثانى‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا الدعاء استجيب له فى جملة الأمة، ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏سألت ربى لأمتى ثلاثا فأعطانى اثنتين، ومنعنى واحدة‏:‏ سألته ألا يهلك أمتى بسَنَة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم، فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بَأْسَهم بينهم فمنعنيها، وقال‏:‏يا محمد،إنى إذا قضيتُ قضاء لم يُرَدَّ‏)‏‏.‏

وكذلك فى الصحيحين‏:‏ لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏‏.‏ ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏ قال‏:‏‏(‏هاتان أهْوَن‏)‏‏.‏ وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة، ولابد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشرى، ولا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك؛ ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها، بل هي أفضل الأمم، وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية، وهو فى غيرها أكثر وأعظم، وخير غيرها أقل والخير فيها أكثر، والشر فيها أقل، فكل خير فى غيرها فهو فيها أعظم، وكل شر فيها فهو فى غيرها أعظم‏.‏

وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب، ولكن قد يحصل للعاصى من ذلك بحسب ما معه من طاعة اللّه تعالى، وأما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخلقية من جنس الوعد والوعيد، وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح‏.‏

وأما دفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان، ودفع الآصار، فإن هذا قد يشكل لأنه من باب الأحكام الشرعية أحكام الأمر والنهى‏.‏

فيقال‏:‏ الخطأ والنسيان المرفوع عن الأمة مرفوع عن عصاة الأمة؛فإن العاصى لا يأثم بالخطأ والنسيان؛ فإنه إذا أكل ناسياً أتم صومه، سواء كان مطيعاً فى غير ذلك أو عاصياً، فهذا هو الذى يشكل، وعنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏أن الذنوب والمعاصى قد تكون سبباً لعدم العلم بالحنيفية السَّمْحَة؛فإن الإنسان قد يفعل شيئاً ناسيًا أو مخطئاً ويكون لتقصيره فى طاعة الله علماً وعملا،ولا يعلم أن ذلك مرفوع عنه؛إما لجهله،وإما لكونه ليس هناك من يفتيه بالرخصة فى الحنيفية السمحة‏.‏

والعلماء قد تنازعوا فى كثير من مسائل الخطأ والنسيان، واعتقد كثير منهم بطلان العبادات أو بعضها به،كمن يبطل الصوم بالنسيان،وآخرون بالخطأ،وكذلك الإحرام، وكذلك الكلام فى الصلاة،وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسياً أو مخطئاً، فإذا كان اللّه ـ سبحانه ـ قد نفى المؤاخذة بالخطأ والنسيان،وخفى ذلك فى مواضع كثيرة على كثير من علماء المسلمين،كان هذا عقوبة لمن لم يجد فى نفسه ثقة إلا هؤلاء فيفتونه بما يقتضى مؤاخذته بالخطأ والنسيان،فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا فى حقه لعدم العلم،لالنسخ الشريعة‏.‏

واللّه ـ سبحانه ـ جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع، كقوله‏:‏‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏155‏]‏،وقال‏:‏‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109، 110‏]‏ وقال‏:‏‏{‏فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏10]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وهذا كما أنه حرم على بنى إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم، فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا، ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا، بأن يحرموا الطيبات، أو بتحريم الطيبات؛ إما تحريماً كونياً بألا يوجد غيثهم، وتهلك ثمارهم، وتقطع المِيرَة عنهم، أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك، وتسلط عليهم الغُصَص ‏[‏جمع غُصَّة،وهى ما اعترض فى الحلق ـ من طعام وشراب وغيرهما ـ فأشرق‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة‏:‏ غصص‏]‏ وما ينغص ذلك ويعوقه‏.‏ ويجرعون غصص المال والولد والأهل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 55‏]‏ وقـال‏:‏‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏ المؤمنون‏:‏ 55،56‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏15‏]‏، فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان‏.‏

وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل اللّه ورسوله عندهم، كما قد فعل ذلك كثير من الأمة، اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق، وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذى يعلمون به الحل، فصارت محرمة عليهم تحريماً كونياً، وتحريماً شرعياً فى ظاهر الأمر؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده، فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة الأدلة الدالة على الحل، كان عجزه سبباً للتحريم فى حق المقصرين فى طاعة الله‏.‏

وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التى يحتاجون إليها كضمان البساتين، والمشاركات وغيرها؛ وذلك لخفاء أدلة الشرع، فثبت التحريم فى حقهم بما ظنوه من الأدلة، وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه، لكن لا يعرف بذلك عقوبة له، وإن العبد ليحَرم الرزق بالذنب يُصيبه، وقد قـال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏ فهـو سبحانه إنمـا ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين، كما ضمن هذا للمتقين‏.‏

فتبين أن المقصرين فى طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان، ومن غير نسخ بعد الرسول، لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير، ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك؛ ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلى فى السفر قصراً يرى الفطر فى السفر حراما فيصوم فى السفر مع المشقة العظيمة عليه، وهذا عقوبة له لتقصيره فى الطاعة، لكنه مما يكفر اللّه به من خطاياه ما يكفره، كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا‏.‏

وكذلك منهم من يعتقد التربيع فى السفر واجباً فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره فى الطاعة، ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التى بعضها مباح بالاتفاق، وبعضها متنازع فيه، لكن الرسول لم يحرمه؛ فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله، وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصراً، ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها، لكنهم لم يعلموها‏.‏

وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصاراً وأغلالا من جهة مطاعهم؛ مثل حاكم، ومفت، وناظر وقف، وأمير ينسب ذلك إلى الشرع؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعهم تيسير اللّه عليهم عقوبة فى حقهم لذنوبهم، كما لو قدر أنه سار بهم فى طريق يضرهم، وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله، لا لتعمده مضرتهم، أو أقام بهم فى بلد غالى الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر‏.‏

وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم، يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية، فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم، كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم، فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم، وإن كان الرسول ليس فى شرعه آصار وأغلال؛ فلهذا تَسلَّط عليهم حكام الجور والظلم، وتساق إليهم الأعداء، وتقاد بسلاسل القهر والقدر، وذلك من الآصار والأغلال التى لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى؛ وذلك لضعف الطاعة فى قلوبهم، وتمكن المعاصى وحب الشهوات فيها، فإذا قالوا‏:‏‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏ دخل فيه هذا‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، فعلى قولين‏:‏

قيل‏:‏ هو من باب التحميل القدرى، لا من باب التكليف الشرعى، أى‏:‏ لا تبتلينا بمصائب لا نطيق حملها، كما يبتلى الإنسان بفقر لا يطيقه، أو مرض لا يطيقه، أو حدث، أو خوف، أو حب أو عشق لا يطيقه، ويكون سبب ذلك ذنوبه‏.‏

وهذا مما يبين أن الذنوب عواقبها مذمومة مطلقاً‏.‏

وقوله‏:‏‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏123‏]‏، و ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7، 8‏]‏ قول حق، وقال تعالى فى قصة قوم لوط‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37‏]‏‏.‏

فما من أحد يبتلى بجنس عملهم إلا ناله شىء من العذاب الأليم، حتى تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غرامًا وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه؛ فإن كان عاجزاً فهو فى عذاب أليم من الحزن والهَمّ والغَمّ، وإن كان قادراً فهو فى عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعى فى تأليفه وأسباب رضاه؛ فإن نزل به الموت أو افتقر تضاعف علىه العذاب، وإن صار إلى غيره استبدالاً به أو مشاركة قوى عذابه، فإن هذا الجنس يحصل فيه من العذاب ما لا يحصل فى عشق البغايا وما يحصل مثله فى الحلال، وإن حصل في الحلال نوع عذاب كان أخف من نظيره، وكان ذلك سبب ذنوب أخرى‏.‏

فإذا دعا الإنسان بهذا الدعاء ـ يخص نفسه ويعم المسلمين ـ فله من ذلك أعظم نصيب، كيف لا وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الآيتان من آخر سورة البقرة ما قرأ بهما أحد فى ليلة إلا كفَتَاهُ‏)‏ وكيف لا تكفيانه وما دعا به من ذلك لم يحصل له إلا ما حصل لسائر المؤمنين الذين لم يقرؤوهما، فإن الداعى بهذا الدعاء له منه نصيب يخصه كسائر الأدعية‏.‏

ومما يبين ذلك أن الصحابة إنما استجيب لهم هذا الدعاء لما التزموا الطاعة للّه مطلقاً بقولهم‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏، ثم أنزل هذا الدعاء، فدعوا به فاستجيب لهم‏.‏

ولهذا كانوا فى الحنيفية السمحة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانوا فيها على عهد أبى بكر خيراً مما كانوا فيها على عهد عمر، فلما كانوا فى زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام فى نوع من التشديد عليهم، كمنعهم من مُتْعَة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة فى الخمر، وكان أطوعهم للّه وأزهدهم ـ مثل أبى عبيدة ـ ينقاد له عمر ما لا ينقاد لغيره، وخفى عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها، حتى تنازعوا فيها، وهم مؤتلفون متحابون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده‏.‏

فلما كان فى آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع فى الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر، فحصل بين بعض القلوب تنافر حتى قتل عثمان، فصاروا فى فتنة عظيمة قد قال تعالى‏:‏‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏25‏]‏، أى هذه الفتنة لا تصيب الظالم فقط، بل تصيب الظالم والساكت عن نهيه عن الظلم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يَعُمَّهم اللّه بعقاب منه‏)‏‏.‏

وصار ذلك سبباً لمنعهم كثيراً من الطيبات، وصاروا يختصمون فى متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقاً كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبنى أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون مَنْ تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة الرسول، بل خفي عليهم العلم، وكان ذلك سببه ما حدث من الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خرجتُ لأخبركم بليلة القَدْر فَتَلاَحا رجلان، فُرفِعَتْ، لعل ذلك أن يكون خيراً لكم‏)‏‏.‏ أى قد يكون إخفاؤها خيراً لكم لتجتهدوا فى ليالى العشر كلها؛ فإنه قد يكون إخفاء بعض الأمور رحمة لبعض الناس‏.‏

والنزاع فى الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه ‏(‏كتاب الاختلاف‏)‏ فقال أحمد‏:‏ سَمِّه ‏(‏كتاب السعة‏)‏ وإن الحق فى نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة اللّه ببعض الناس خفاؤه لما فى ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏101‏]‏‏.‏

وهكذا ما يوجد فى الأسواق من الطعام والثياب قد يكون فى نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة وقد يكون مكروه النفس أنفع كما فى الجهاد‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏

والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سبباً لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سبباً لنسيان ما علم، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك‏.‏

واللّه ـ سبحانه ـ كان أسكن آدم وزوجه الجنة، وقال لهما‏:‏‏{‏وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏35 ،36‏]‏، فكل عداوة كانت فى ذريتهما وبلاء ومكروه وتكون إلى قيام الساعة وفى النار يوم القيامة سببها الذنوب ومعصية الرب تعالى‏.‏

فالإنسان إذا كان مقيما على طاعة اللّه باطنا وظاهراً كان فى نعيم الإيمان والعلم وارد عليه من جهاته، وهو فى جنة الدنيا، كما فى الحديث‏:‏ ‏(‏إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ وما رياض الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏مجالس الذكر‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة‏)‏، فإنه كان يكون هنا فى رياض العلم والإيمان‏.‏

وكلما كان قلبه فى محبة اللّه وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال فى علو ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال فى هبوط ما دام كذلك، ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة، فإن أراد الله به خيراً ثاب وعمل فى حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏ فتقوى القلوب هى التى تنال اللّه،كما قال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏،فأما الأمور المنفصلة عنا من اللحوم والدماء فإنها لا تنال اللّه‏.‏

والباطنية ـ المنكرون لخلق العالم فى ستة أيام، ومعاد الأبدان ـ الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم، عندهم ما ثَمَّ ‏(‏جَنَّة‏)‏ إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة، وما ثَمَّ ‏(‏نار‏)‏ إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة، فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم، أو لفوات الدنيا المحبوبة لها، وحجبها إنما هى ذنوبها‏.‏

وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد فى ‏(‏المضنون به على غير أهله‏)‏،لكن قد يقول هذا‏:‏ليس هو عذاب القبر المذكور فى الأجسام،بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة،ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا؛ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب‏.‏

وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلا؛ فإن الناس فى الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم، فكيف فى دار الجزاء‏؟‏ ولكن الذى أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق، ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله، فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا فى جنة العلم، وهبوطه انخفاض درجته فى العلم، وهذا كذب، ولكن ما أثبتوه من الحق حق،وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة، لا أنه هو المراد بالآية، لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم، أو لا يفهم المراد منه، وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلاً، كما قال تعالى عن اليهود‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏61‏]‏، ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏61‏]‏‏.‏

ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات، واللذة التى تبقى بعد الموت وتنفع فى الآخرة هى لذة العلم بالّله والعمل له، وهو الإيمان به، وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق‏.‏

وأيضا، فنفس العلم به إن لم يكن معه حب له وعبادة له، بل كان مع حب لغيره كائنا من كان، فإن عذاب هذا قد يكون من أعظم العذاب فى الدنيا والآخرة، وهم لا يجعلون كمال اللذة إلا فى نفس العلم‏.‏

وأيضاً فاقتصارهم على اللذة العقلية خطأ، والنصارى زادوا عليهم السمع والشم، فقالوا‏:‏ يتمتعون بالأرواح المتعشقة والنغمات المطربة، ولم يثبتوا هم ولا اليهود الأكل والشرب ولا النكاح ـ وهى لذة اللمس ـ والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات؛ سمعاً، وبصراً، وشماً، وذوقا، ولمسا، للروح والبدن جميعاً، وكان هذا هو الكمال، لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى اللّه ـ سبحانه ـ كما فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه‏)‏، وهو ثمرة معرفته وعبادته فى الدنيا، فأطيب ما فى الدنيا معرفته، وأطيب ما فى الآخرة النظر إليه ـ سبحانه ـ ولهذا كان التجلى يوم الجمعة فى الآخرة على مقدار صلاة الجمعة فى الدنيا‏.‏

وأبو حامد يذكر فى كتبه هو وأمثاله ‏(‏الرؤية‏)‏،وأنها أفضل أنواع النعيم، ويذكر كشف الحجُب، وأنهم يرون وجه الله، ولكن هذا كله يريد به ما تقوله الجهمية والفلاسفة؛ فإن الرؤية عندهم ليست إلا العلم، لكن كمـا أن الإنسان قد يرى الشىء بعينيه، وقد يمثل له خياله إذا غاب عنه فهكذا العلم‏.‏ ففى الدنيا ليس عندهم من العلم إلا مثال كالخيال في الحساب، وفى الآخرة يعلمونه بلا مثال، وهو عندهم‏(‏وجود لا داخل العالم ولا خارجه‏)‏، و‏(‏كشف الحجاب‏)‏ عندهم رفع المانع الذى فى الإنسان من الرؤية، وهو أمر عدمي، فحقيقته جعل العبد عالماً، وهذا كله مما تقول به الفلاسفة والباطنية‏.‏

وهؤلاء إنما يأمرون بالزهد فى الدنيا لينقطع تعلق النفس بها وقت فراق النفس، فلا تبقى النفس مفارقة لشىء يحبه، لكن أبو حامد لا يبيح محظورات الشرع قط، بل يقول‏:‏ قتل واحد من هؤلاء خير من قتل عدد كثير من الكفار‏.‏

وأما هؤلاء فالواصل عندهم إلى العلم المطلوب قد يبيحون له محظورات الشرائع، حتى الفواحش والخمر وغيرها، إذا كانوا ممن يعتقد تحريم الخمر، وإلا فغالب هؤلاء لا يوجبون شريعة الإسلام، بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلا إلى علمهم فهو سعيد‏.‏

وهكذا تقول الاتحادية منهم؛ كابن سبعين، وابن هود، والتلمسانى، ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بِيَعَهُم ‏[‏جمع بيعة، وهى متعبد النصارى‏]‏، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات؛ ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول؛ ولأنهم أجهل فيقبلون ما يقولونه أعظم من قبولهم لقول المسلمين،وعلماء النصارى جهال إذا كان فيهم متفلسف عظموه،وهؤلاء يتفلسفون‏.‏

والواحد من هؤلاء يفرح إذا قيل له‏:‏ لست بمسلم، ويحكى عن نفسه كما كان أحمد الماردينى وهو من أصحاب ابن عربى يحكى عن نفسه أنه دخل إلى بعض ديارات النصارى ليأخذ منهم ما يأكله هو ورفيقه، فأخذ بعضهم يتكلم فى المسلمين، ويقول‏:‏ يقولون‏:‏ كذا وكذا، فقال له آخر‏:‏ لا تتكلم فى المسلمين فهذا واحد منهم، فقال ذلك المتكلم‏:‏ هذا وجهه وجه مسلم‏؟‏ أى ليس هذا بمسلم، فصار يحكيها الماردينى أن النصرانى قال عنه‏:‏ ليس هذا بمسلم، ويفرح بقول النصرانى ويصدقه فيما يقول، أى ليس هو بمسلم‏.‏

والمتفلسفة يصرحون بهذا‏.‏ يقولون‏:‏ قلنا‏:‏ كذا وكذا، وقال المسلمون‏:‏ كذا وكذا، وربما قالوا‏:‏ قلنا‏:‏ كذا، وقال المِلِّيُّون‏:‏ كذا أى‏:‏ أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وكتبهم مشحونة بهذا، ولا بد لأحدهم عند أهل الملل أن يكون على دينهم‏.‏

لكن دخولهم فى هذا كدخولهم فى سياسة الملوك، كما كانوا مع الترك الكفار، وكانوا مع هولاكو ملك المغول الكفار، ومع القان الذى هو أكبر منه خليفة جنكزخان ببلاد الخطا، وانتساب الواحد منهم هناك إلى الإسلام انتساب إلى إسلام يرضاه ذلك الملك بحسب غرضه، كما كان النصير الطوسى ‏[‏هو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسى، فيلسوف، كان رأسا فى العلوم العقلية، ذا منزلة من هولاكو،فكان يطيعه فيما يشير به عليه،اتخذ خزانة ملأها من الكتب التى نهبت من بغداد والشام والجزيرة، اجتمع فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، ولد بطوس سنة 597 هـ، وتوفى سنة 672 هـ‏]‏ وأمثاله مع هولاكو ملك الكفار، وهو الذى أشار عليهم بقتل الخليفة ببغداد لما استولى عليها وأخذ كتب الناس، ملكها ووقفها، وأخذ منها ما يتعلق بغرضه، وأفسد الباقى، وبنى الرصد ووضعها فيه، وكان يعطى من وقف المسلمين لعلماء المشركين البخشية والطوينية،ويعطى فى رصده الفيلسوف والمنجم والطبيب أضعاف ما يعطى الفقيه، ويشرب هو وأصحابه الخمر فى شهر رمضان، ولا يصلون‏.‏

وكذلك كان بالشام ومصر طائفة مع تصوفهم وتألههم وتزهدهم يشرب أحدهم الخمر فى نهار رمضان،وتارة يصلون وتارة لا يصلون‏.‏ فإنهم لا يدينون بإيجاب واجبات الإسلام وتحريم محرماته عليهم، بل يقولون‏:‏ هذا للعامة والأنبياء، وأما مثلنا فلا يحتاج إلى الأنبياء‏.‏ ويحكون عن بعض الفلاسفة أنه قيل له‏:‏ قد بعث نبى، فقال‏:‏ لو كان الناس كلهم مثلى ما احتاجوا إلى نبى‏.‏ ومثل هذه الحكاية يحكيها من يكون رئيس الأطباء ولا يعرف الزندقة ولا يدرى مضمون هذه الكلمة ما هو؛ لجهله بالنبوات‏.‏ وقيل لرئيسهم الأكبر فى زمن موسى ـ عليه السلام‏:‏ ألا تأتيه فتأخذ عنه‏؟‏ فقال‏:‏ نحن قوم مهديون فلا نحتاج إلى من يهدينا‏.‏

وأما ما ذكروه من حصول اللذة فى القلب والنعيم بالإيمان بالله والمعرفة به فهو حق، وهو سبب دخول الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين‏)‏‏.‏ وما ذاك إلا لأنه فى شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التى بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التى بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه فى الإفطار؛ فإن المصفد هو المقيد، لأنهم إنما يتمكنون من بنى آدم بسبب الشهوات، فإذا كُفّوا عن الشهوات صفدت الشياطين‏.‏

والجنة والنار التى تفتح وتغلق غير ما فى القلوب، ولكن ما فى القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره،وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ يأكلون ويشربون ما سيصير ناراً‏.‏ وقيل‏:‏ هو سبب النار ‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

وَقالَ شيخ الإسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه ‏:‏

 فصــل

فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18،19‏]‏، قد تنوعت عبارات المفسرين فى لفظ ‏{‏شّهٌد‏}‏ فقالت طائفة ـ منهم مجاهد والفراء وأبو عبيدة ـ‏:‏ أى‏:‏ حكم وقضى‏.‏ وقالت طائفة ـ منهم ثعلب والزجاج ـ‏:‏ أى‏:‏ بين‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ أى‏:‏ أعلم‏.‏ وكذلك قالت طائفة‏:‏ معنى شهادة اللّه‏:‏ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين‏:‏ الإقرار‏.‏ وعن ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان، ولم يكن سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏

وكل هذه الأقوال وما فى معناها صحيحة؛ وذلك أن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به، وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره، وإن لم يكن معلماًً به لغيره، ولا مخبراً به لسواه‏.‏ فهذه أول مراتب الشهادة‏.‏

ثم قد يخبره ويعلمه بذلك، فتكون الشهادة إعلاماً لغيره وإخباراً له، ومن أخبر غيره بشىء فقد شهد به‏.‏سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏81‏]‏‏.‏ ففى كلا الموضعين إنما أخبروا خبراً مجرداً، وقد قال‏:‏‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله‏)‏، قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية، وإنما فى الآية‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏ وهذا يعم كل قول زور بأى لفظ كان، وعلى أى صفة وجد، فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره‏.‏ والزور‏:‏ هو الباطل الذى قد ازور عن الحق والاستقامة أى‏:‏ تحول، وقد سماه النبى صلى الله عليه وسلم شهادة الزور، وقد قال فى المظاهرين مـن نسائهم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏2‏]‏‏.‏

وفى الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس‏.‏ وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك، ولم يقولوا‏:‏ نشهد عندك؛ فإن الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ فى التحديث، وإن كان أحدهم قد ينطق به، ومنه قولهم فى ماعز‏:‏ فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبى صلى الله عليه وسلم ولفظه كان إقراراً ولم يقل‏:‏ أشهد‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، وشهادة المرء على نفسه هى إقراره، وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا فى الشهادة عند الحكام‏:‏ هل يشترط فيها لفظ أشهد‏؟‏ على قولين فى مذهب أحمد،وكلام أحمد يقتضى أنه لا يعتبر ذلك، وكذلك مذهب مالك، والثانى يشترط ذلك، كما يحكى عن مذهب أبى حنيفة والشافعى‏.‏

والمقصود هنا الآية فالشهادة تضمنت مرتبتين‏:‏

إحداهما‏:‏ تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد فى نفسه به‏.‏

والثانىة‏:‏ إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به، فمن قال‏:‏ حكم وقضى فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر‏.‏

ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى به وحكم،فقال‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وهذا كثير فى القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده، ويحرم عليهم عبادة ما سواه، فقد حكم وقضى أنه لا إله إلا هو‏.‏

ولكن الكلام فى دلالة لفظ الشهادة على ذلك؛ وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله فلا يعبد، وأنه وحده الإله الذى يستحق العبادة، وهذا يتضمن الأمر بعبادته والنهى عن عبادة ما سواه؛ فإن النفى والإثبات فى مثل هذا يتضمن الأمر والنهى، كما إذا استفتى شخص شخصاً، فقال له قائل‏:‏ هذا ليس بمفت، هذا هو المفتى، ففيه نهى عن استفتاء الأول، وأمر وإرشاد إلى استفتاء الثانى‏.‏

وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم، أو طلب شيئا من غير ولى الأمر، فقيل له‏:‏ ليس هذا حاكماً ولا هذا سلطاناً، هذا هو الحاكم وهذا هو السلطان،فهذا النفى والإثبات يتضمن الأمر والنهى، وذلك أن الطالب إنما يطلب من عنده مراده ومقصوده، فإذا ظنه شخصاً فقيل له‏:‏ ليس مرادك عنده وإنما مرادك عند هذا، كان أمراً له بطلب مراده عند هذا دون ذاك‏.‏

والعابدون إنما مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة، فإذا قيل لهم‏:‏ كل ما سوى اللّه ليس بإله،إنما الإله هو اللّه وحده، كان هذا نهياً لهم عن عبادة ما سواه، وأمرا بعبادته‏.‏

وأيضاً فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضى أنه يستحق العبادة، فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمراً بما يستحقه‏.‏

وليس المراد هنا بـ ‏(‏الإله‏)‏ من عبده عابد بلا استحقاق، فإن هذه الآلهة كثيرة، ولكن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فالآلهة التى جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة، لكن هى لا تستحق العبادة فليست بآلهة، كمن جعل غيره شاهداً أو حاكماً أو مفتياً أو أميراً وهو لا يحسن شيئا من ذلك‏.‏

ولابد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده، ‏(‏تعس عبد الدينار وعبد الدرهم‏)‏، فإن بعض الناس قد أله ذلك محبة وذلا وتعظيما، كما قد بسط فى غير هذا الموضع‏.‏

فإذا شهد اللّه أنه لا إله إلا هو، فقد حكم وقضى بألا يعبد إلا إياه‏.‏

وأيضاً فلفظ الحكم والقضاء يستعمل فى الجمل الخبرية، فيقال للجمل الخبرية‏:‏ قضية، ويقال‏:‏ قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى، وكل شاهد ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار قد حكم بثبوت ما أثبته ونفى ما نفاه حكما خبريا، قد يتضمن حكما طلبيا‏.‏

 

فصــل

وشهادة الرب وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة، وبفعله تارة‏.‏

فالقول‏:‏هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه،وأوحاه إلى عباده كما قال‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ‏}‏‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقد علم بالتواتر والاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن اللّّه أنه شهد ويشهد أن لا إله إلا هو بقوله وكلامه، وهذا معلوم من جهة كل من بلغ عنه كلامه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏24‏]‏‏.‏

وأما شهادته بفعله فهو ما نصبه من الأدلة الدالة على وحدانيته التى تعلم دلالتها بالعقل، وإن لم يكن هناك خبر عن الله، وهذا يستعمل فيه لفظ الشهادة والدلالة والإرشاد، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره، فهو بمنزلة المخبر به الشاهد به، كما قيل‏:‏ سل الأرض‏:‏ من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج ثمارها، وأحيا نباتها، وأغطش ليلها، وأوضح نهارها، فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ شهد بما جعلها دالة عليه فإن دلالتها إنما هي بخلقه لها‏.‏ فإذا كانت المخلوقات دالة على أنه لا إله إلا هو، وهو ـ سبحانه ـ الذى جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هى بخلقه، وبين ذلك، فهو الشاهد المبين بها أنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة الفعلية ذكرها طائفة‏.‏ قال ابن كيسان ‏[‏هو أبو الحسن محمد بن إبراهيم، عالم بالعربية، نحوا ولغة‏.‏ من أهل بغداد، له تصانيف فى القراءات والغريب والنحو، منها‏:‏ ‏"‏المهذب‏"‏ فى النحو، و‏"‏غريب الحديث‏"‏ وتوفى فى ذى القعدة سنة 299 هـ‏]‏‏:‏‏{‏شَهِدَ اللهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏ بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو‏.‏